في الثالث من مايس 1987 الساعة الخامسة مساءً ، وجدت
داليدا في
غفوتها الابدية ، كان سنها 54 عاما .. ماتت اذن طفلة شبرا القاهرية
ذات الحّول في العين اليمنى والتي طالما عيرّها الطلاب (( بأم العيون
الاربعة )) توفيت تلك السكرتيرة الفاشلة التي كانت تدندن وهي تطبع
ببطْ ، وأخيراً غابت ممثلة الظل والفنانة البديلة باحدى علب باريس
الخمسينات ! لو حدث هذا الرحيل عام 1954 ايام حلّت في باريس
يولاند جيليوتي ، لما أهتم بذلك أحد . لكن ثلاثة عقود ونيفاً تفصلنا عن
ذلك المنعطف في حياة من اصبحت تعرف بأسم (داليدا ) دون الحاجة
الى تعرفيها بالنجمة العالمية مصرية الولادة لان شعوب سبع لغات في
العالم سمعوها ، تغني بلسانهم . لقد صعقت الاوساط الفنية وصعق عشاق
نجوميتها لرحيلها المأساوي المفاجيء ، حين قطعت محطات الاذاعة
والتلفزيون برامجها لتبث الخبر ، وخصصت لها الملفات والمساحات
الواسعة مختلف الصحف والمجلات القريبة من الحدث لقد بات الخبر في
حكم الماضي ولا يتحمل اي سبق صحفي مباشر . ومع ذلك فان مايحفز
اهتمامنا بغياب صوت ((حلو حلو يابلدي )) ليس فقط نجوميتها بل ارتباطها
بارض عربية انجبتها واعطتها الكثير من تأريخها وحضارتها واذا ضاقت
الصفحات بسرد كل تفاصيل حياتها ، فأننا سنتناول في مسح شامل لمراحل
صراعها مع الذات ومع الحياة في سبيل المجد والسعادة ، وبما يُقرب الاجابة
عن سؤال معلّق قدر ارتباطه بمعات وجدانية تخص الموت والحياة ..!هو
لــــماذا أنتحــرت داليــدا ؟
ولا ريب ان هذا السر رافق نجوما اخرى مثل مارلين مونرو
التي سبقتها ببضع عقود او نجمة اخرى سبقتها بما لايزيد عن الفي
عام : كيلوباترا الم يقل مسؤول مصري كبير بانها اشهر مصرية بعد كيلوباترا
لكنها لم تولد ملكة ان لم نقل بانها لم تولد حسناء بالتمام . فيما قيل عن تاثير
أنف (عشيقة انطونيو) على صورة العالم ، ربما يصح في عينيّ داليدا وعالم
الفن حتى وصفتهما (( بصليب الجلجلة الذي رافق حياتها ، والا لمَ هذا
الاصرار على أجراء العمليات للانحراف الشديد في عينها ، في الشهر الثامن
عشر من عمرها .و في سن الرابعة - حيث عاشت في الظلام اربعين يوما - واخيرا
وليس أخرا في سن الخامسة عشرة قبل ان تجري في الخمسين وهي متربعة
على عرش الغناء اخر عملية جراحية دقيقة ، حين وصفت وصُممت لها زجاجات
سميكة خاصة لحجب الرؤيا الساطعة لتطلق ضمن تقليعة الموسم باسم نظارات
داليدا . لكنها في مطلع الخمسينات لم تكن بعد ((داليدا )) فبالرغم من النجاح النسبي
لتلك العملية الثالثة اقتنعت بانها لن تطال " افا غاردنر " التي غزت الشاشة انذاك
، حتى وان نشأت في وسط يشجع الفن ، والدها ألايطالي الذي قصد القاهرة مع
بداية الثلاثينيات كان يعمل عازف كمان في اوبرا العاصمة المصرية . أنصرفت
لكسب عيشها كسكرتيرة بمكتب تجاري (12 جنيها مصريا في الشهر ) لكنها فشلت
لعدم رغبتها بذلك العمل وتزامن تركه مع اعلان عن مسابقة جمال مصر قررت
الاشترك فيها . أشترت بأخر مرتب لها (مايوهاً) مرقطا ... اعتلت حلبة المسابقة
وخطفت تاج حسناء مصر الاولى ،.عادت الى البيت تبحث عن نظارتها وبفعل
مسرحي كسرتها والقتها في القمامة بعد ان حققت اول انتصار في صراعها من
اجل المجد .. تخطو (( يولاند )) اول خطواتها في الفن ، على ضفاف النيل وفي ظل
الاهرام ، تقوم بتمثيل ادوار ثانوية : (قدح سيكارة ) ،( البنفسجة ) تمثل دور الظل
للممثلة (جوان كولتر ) بجانب عمر الشريف الذي يكون البديل المجهول للممثل
جاك هاوكنر - وكذا شأنها مع ( هوارد هاوك ) في فلم (أرض الفراعنة ) حتى تبرز
في (( قناع توت عنخ أمون )) فيشاورها المخرج الفرنسي مقترحا ان تجرب حظها
في باريس ، تعمل بنصيحته ، وتترك هناك شابا يدعى يوسف شاهين كان يشتغل
مساعدا لفريق العمل , وكان يحوم حوليها مرددأ ك أنت في يوم ما ، سأخرج لك
فلماً ، تطير الى باريس ليلة الميلاد في عام 1954 . كانت وحيدة ، وحيــدة منذ
ذلك الوقت .. لم يكن طريق باريس مفروشاً بالزهور ، في البدء لم تجد الدور
الفني المناسب فقبلت بمهنة "" فنانة أحتياط "" باحدى علب الليل وتتلقى في
النهار دروسا في الغناء والموسيقى ، حتى سمعت عن برنامج الاثنين الخاص
باكتشاف المواهب الشابة تغني فيه "الغريب في الجنه " للمغنية غلوريا لاسو
بفرنسية ، تحمل لكنة أيطالية منفردة - تلك اللكنة ستبقى فيما بعد -ماركتها المسجلة
يسمعها مسؤول القناة التلفزيونية - زوجها المقبل - ويسمعها مخرج غنائي ،فتوقع
لهما العقد في ذات المساء . تسجل الاسطوانة الاولى دونما نجاح يذكر ، لكن
موهبتها تدفع الرجلين الى اعادة المحاولة بسجيل اسطوانة ((بامبينو)) لتكون
قنبلة الموسم التي تطلقها نجمة ساطعة وهي لماّ تمضي سنتين في باريس .هذا
النجاح تنبأت به العرافّة مدام روا التي كانت داليدا تراجعها باستمرار منذ وصولها
عاصمة الفن وتتوالى الاغاني بعد بامبينو ، جيجي لامورد ، صاحب الغندول ،
لتغني اكثر من خمسمائة عنوان بسبع لغات ، ومع الايام ستصل الى 50 مليون
اسطوانة ، حيث كانت كل اسطوانة تطبع بنصف مليون نسخة ، من موسيقى
الــ(( بي بي)) الى موسيقى الديسكو ، من الحان ((لويز ماريانو)) الى أيقاعات
جوني هوليداي - يتلون صوت داليدا مع كل مراحل الغناء لتسلب الباب مختلف
الاجيال ، تتخذ منزلا فخما في مرتفع مونمارتر ترى من خلاله تحت اقدامها
باريس التي كرستها نجمة الجماهير . تحول المنزل الى فندق عائلي يشاركها
في طوابقه الاربعة أمها ، أخوها ، أبنة عمها وتقتني فيلا ضخمة على ساحل
المتوسط في بورتو فيكيو تمضي فيها فترات الراحة واستعادة النشاط ، عرفت
الرئيس ميتران قبل تسنمه منصب الرئاسة وكانت في الصف الاول من الذين
تبعوه الى حفلة التنصيب ، تقول عنه : لقد انتخبت الرجل لكونه صديقي اكثر
منه سياسياً فأنا لا افهم في السياسة شيئا ويؤكد رأيها هذا ماقالته عن السيد
شيراك بعد عناق حار معه ، أنه من الصعب أن نرفض عناق رجل بهذه الجاذبية
لي في السياسة صديقان ، واحد في قصر الاليزية والاخر في قصر ماثينيون
وهكذا أصبحت تتكلم بلغة المشاهير
(( حــلــو حــلــو يـابـلـدي - سالمة ياسلامة ))
بهذه الاغنية من كلمات الشاعر صلاح جاهين تعود الى بلدها مصر ، عودة
الابطال حيث تستقبل استقبالا جماهيريا يشق طريقها بينهم سياج من الحراس
بهذه العودة ( 1975) تثار للفتاة يولاندا حين كان المخرجون الاجانب في
الخمسينات يشغلونها كبديلة مجهولة للمثلة (ريتا هايورن ) في فلم ((قناع توت
عنخ أمون )) بعد ثلاثين عاما ونيف تلتقي المخرج يوسف شاهين لتمثل في
كتاب اندريه شديد . عن اتجاهها في التمثيل قالت داليدا :(( أطمح في السينما
الى اكثر مما تلقيته في صالات الغناء ، بالتمثيل اصعد درجة ارفع . كفاني
ماغنيت عن اشيائي الصغرى على مسارح العالم ، اود ان اغور في السينما
لمزيد من الاكتشاف الذاتي )) أنــها لا تنتظر من السينما مكافأة مادية فاسبوع
احتفالي دولي يدر عليها اضعاف اتعابها عن تصوير شهرين متواصلين بمعدل
خمسة عشر ساعة يوميا . نالت عن هذا الفلم أستحسان النقاد دون ان يلاقي
اقبالا اوربيا متميزا كان صديق العمر يوسف شاهين يخاطبها اثناء التصوير
اعطني يادالي كل الآمك واتعابك لاتكوني بخيلة بالاحتفاظ بها في الداخل اطلقيها
فهذا دورك .. وتفسر داليدا هذه الكلمات (( بداياتي الفنية كانت مع يوسف شاهين
كان يعرف كل مأسي حياتي وكل الآمي ، اية الآم ومأس؟ أجل هذا هو الوجه
الاخر للنجمة داليدا .... مع فلم اليوم السادس أحست داليدا بأن هذا المنعطف نحو
التمثيل لن يقودها بعد سن الخمسين الى هدف يذكر بل كان مجرد مناسبة لتعيش
ذاتها في دور ((صديقة )) وتعيش بعمق المأساة التي مثلتها في أيام حياتها : ابتسامة
عريضة حيوية وهالة جماهيرية تخفي كلها عالما من العزلة ، تقول (( ولئن نجحت
في حقبتي الفنية الغنائية الا اني خسرت حياتي كامرأة دون زوج وأطفال )) رغم
اجواء الفت المتحررة بقيت داليدا تقدس الزواج ومحبة الاطفال .. هذا مالايستطيع
ان يوفره العالم الغربي لنجوم الفن . من أجل النجومية . معظمهم يضحي بحياته
الخاصة ويجب ان يدفعوا كل شيء ثمنا لذلك المجد
وهذا مايفسره حوارها مع زوجها ومكتشفها الاول لوسيان موريس الذي كان
يردد : من له ان يتزوج نجمة ؟ لتجيبه : ((لكنني ولدت لاصبح زوجة )) بعد
خطوبة اربع سنوات يتزوجان لمدة ستة اشهر فقط ليعودا صديقين فحسب وسرعان
ًمايجمعها حب صاعق مع موسيقي ايطالي - لويجي - يقدم لها اغنية ((وداعــــا
يــاحب )) يقرران تأديتها كلاهما في مهرجان سان ريمو بايطاليا تفشل الاغنية
أذ يرفض الجمهور ان يكون هذا الغريب نداً لها . في ذلك المساء عاد الغريب
الى الفندق ليودع الحياة برصاصة في صدغه . وتبدأ أشباح الانتحار في حياة
لويجي - وعلى سرير العلاج تفتح عينيها في الصباح لــجد زوجها السابق وصديقها
لوسيان : (( لقد قتلت نفسي البارحة ، لاتفعل كما فعلت )) بل سيفعلها بعد ثلاث سنوات
وينتحر . وهكذا تتقاذفها أمواج الحب بين الامل والفشل . في كل مرة تحب .
تحسب بأنها وجدت رجل حياتها . تعطي بسخاء لايمنع الاحباط من قرع بابها من
جديد . تفتش عن تفسير لذلك لدى الفقهاء والفلاسفة من العالم ((فرويد )) حتى الاب
تيار دو شاروان - وتلجأ الى علم النفس التحليلي ، دون جدوى ، قبل رحيلها بــاقل
من ثلاثة أشهر كانت تعترف بشيء من الحسرة : (( أني معظم ألايام وحيدة ولكم
أتمنى ان اكون بجانب شخص أحبه )) أخر تــجربة في رحلة البحث عن النصف
الثاني كانت مع أحد النبلاء (( الكونت سان جيرمان )) كان يدّعي الاصالة : تــأريخاّ
وثقافة ويعتقد أمتلاك قوى خارقة ، تصدقه داليدا ، فيقاوم البقاء معها لاطول فترة
زوجية من حياتها : سبع سنوات ثم ينفصلان ، تبقى داليدا في اوج مجدها اما هو
فيتابع اضواءها من بعيد ويتلاشى في الظل حتى ينتحر هو الاخر مختنقا . لقد
فضل ذلك على أن يدعى الســيد دالـــيدا
وعلى مر السنين يُقفر فندقها العائلي في مونمارتر : وفاة الوالدة ، سفر نسيبتها
أستقلال أخيــها ، الذي أغرقت ابنه الصغير بفيض عاطفتها .. عاطفة الامومة التي
أفتقدتها ، تشحن نفسها بالقراءات الـــروحية ، الفكرية والتـأريخية - دون أن تتهيأ
لها فرصة الافصاح عن ثقافتها (( لان الفن يأتي بعد الفكر )) كما تقول ، وبالرغم
من كونه يستهلك كل كياني ... فأنا اغني للسعادة وضعفها ، أغني للحب دون ان اعرفه
وحسبي ان الجمهور يبادلني الحب أضعافاً . دفعت ضريبة الجمهور كاملة ، قبلت
وضحت بكل شيء من اجل تصفيقة ، من أجل الفن ومزيد من العقود ، كل ما تلقته
من ثروة ونجاح وشهرة لم يكن كافياً للاجابة على سؤال واحد طالما رددته : ما معنى
الحياة ؟ فهي أذن مسؤولة عن وحدتها القاتلة . وأثرت ان تترك الجمهور بذات
الحيوية قبل الشيخوخة والاعتزال : متابعة تمارين مسرحية (( الزواج على الطريقة
الايطاليــة )) الاستعداد لمسلسل تلفزيوني : (( عظمة دينا )). اسطوانة أخرى تحت
الطبع بطاقة حجز لسهرة في باريس طلبتها من مدير اعمالها لقضاء امسية 3 مايس
قبل ان تــكلمه فــي الســـاعات الاخيـــرة لالغــاء المــوعتتد ، فقــد أرتـبـطت بموعد
مــع القدر (( أغفروا لي .... الحياة لاتطاق )) كان ذلك على قصاصة ورق بيدها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق