لعل التبغ هو المادة الوحيدة التي اخذها العالم من الهنود الحمر ،ليس لانهم لايمتلكون
اشياء أخرى بل لأن الغزاة الاوائل للامريكتين ارسو علاقة رهيبة مع شعوب هذه القارة
من الهنود الحمر : القتل والنهب ، كان العصر التجاري الاوربي ، وهو عصر
استكشافات ايضا يضج باصوات عصارات الشهية للمذاقات الحارة : بهارات الهند
وذهب الامريكتين : وبين البهار والذهب كان التبغ نباتاً سحرياً لابد من سرقته هو الاخر
وياله من سحر اثبتت التجربة انه كان اداة انتقام . فالهنود الحمر كانو يستخدمون التبغ
كجزء من طقوسهم ، ولكن الغربي ، بكل جشعه جعله جزء من مسراته ومن ثم تجارته
لقد قطع التبغ رحلة طويلة منذ كولومبس وحتى الان . وفيما أكتشفنا مضاره الرهيبة
فانه أستحال الى سلعة تجارية له دور اجتماعي واقتصادي في اوضاع العديد من الامم
وهو جهاز اقتصادي لميزانية عدد غير قليل من الدول . هكذا أصبح ضرورة ، وأكثر
عالمية من العديد من السلع .. وهو عادة عالمية كدخان
التـبـغ فــي أصله عـشب اخـضر يـنمـو بـغزارة فـي امـريكا ، ويطلق عليه في البرازيل
أسم ((بيتون ))وله انواع ، منه ماهو خاص بالتدخين ، ومنه ماهو خاص بزينة الحقول
والدائق العامة ، ومن هذه الانواع الخاصة نذكر تبغ مقاطعة ماريلان الامريكية ، وتبغ
الـــ(( غلوك )) ذا الاوراق الخضراء الكبيرة والازهار العنقودية الصفراء ، وأخيراً تبغاً
ينبت في امريكا الجنوبية ذا ورود بيضاء تفوح منها رائحة جميلة تماثل رائحة زهر الياسمين
ولشكل اوراق التبغ اهمية كبرى في تحديد مفعوله ، فالاوراق الرقيقة او البيضاء لاتحتوي
اكثر من اثنين بالمائة من النيكوتين في حين ان الاوراق الغليظة او السمراء تحوي ثمانية
بالمائة من النيكوتين الذي يزداد وينقص في التبغ بتأخير او تقديم موسم القطف بضعة اسابيع
وفـــي التبغ حوامض وقلويات معدنية ومعادن حرة كالحديد والمنغنيز ، كما أنه يحوي
عناصر عضوية اهمها النيكوتين الذي استحضره العالم (فاكلن ) لاول مرة في عام 1809م
*** هجرة التبغ ***
ويعني الهنود الحمر الامريكيون عناية خاصة بالتبغ ، وهو عندهم احدى الحشائش المقدسة
، التي يحرقونها وينشرون دخانها في احتفالاتهم الدينية وفي اجتماعاتهم العامة وذلك
لتنشيط الذاكرة ولتقوية الفكر ولتمجيد الخالق الاعلى ... والمعروف أن أسبانيا كانت اول
من عرف التبغ في اوربا نتيجة اكتشاف كولومبس للعالم الامريكي في عام 1492 م . فحين
نزل المكتشف في جزيرة كوبا وجد عدداً من اهالي البلاد يضعون بين شفتيهم ملفوفة من
حشائش جافة اشعلوا النار في طرف منها ، كما لاحظ ايضاً في جزائر الأنتيل وفي بفية
المناطق التي زارها في امريكا . ولم يستذوق اصحاب كولومبس في باديء الامر دخان هذا
النبات الذي وصفوه بغريب وعجيب ، وكانت القدسية التي يحيط بها الهنود الحمر التبغ حافزاً
للبحارة الاسبان لأن ينقلوه الى وطنهم الاول وكان ذلك عام 1518 م وبقي استعماله مقصوراً
على ماوجدوا فيه من فوائد طبية
*** دخول التبغ الى الشرق ***
ويختلف المؤرخون في تحديد كيفية انتشار التبغ في الشرق ولا يذكرون فيما اذا كانت شعوب
الشرق قد عرفت التبغ قبل الاوربين ، ولكن يلوح مما ذكره المستشرق جلان ان التبغ قد دخل
الامبراطورية العثمانية عن طريق أسطنبول ومن تركيا عرف في العراق وسوريا وقد ذكر
المؤرخ مارلس في كتابه عن تاريخ الهند : ان الهنود يستعملون طريقة خاصة في التبغ اذ
يمزجونه مع السكر والموز وماء الورد ويهرسون الخليط ويجففونه قبل وضعه في الغليون
لتدخينه . وكان من العادات المتبعة في الصين ان تزرع كل عائلة حاجتها السنوية من التبغ
في الحديقة التي تحيط بدارها . والصينيون بارعون في زراعة التبغ فقد ذكر الاستاذ بلوندل
أن أربعة الوان من التبغ الاصفر والبنفسجي والاحمر والاسود تزرع في ثلاث مقاطعات
رئيسية وهي ... تشي كيانغ وهوبه وكوانغ تونغ
*** مقاومة لم تستمر طويلا ***
ولاقى انتشار التبغ ماكانت تلاقيه جميع العادات الجديدة مقاومة وممانعة .ففي عام (1619) م
نشر جاك الاول ملك انكلترا كتابه ميزوكابنوس حيث قال ( لست ارى في التبغ الا القبح ، فهو
كريه الرائحة خطر على الفكر سيء على الصدر ، ينشر مختلف الروائح المؤذية التي هي
اقرب الى روائح الامكنة القذرة ) وفي عام (1628م) ابلغ البابا اوريان الثامن رجال الدين
في اوربا ان التدخين في الكنائس محرم وفرض عقوبات شديدة على المخالفين اشدها الطرد
من الدين المسيحي . وكان من جراء اهمال احد الجنود لبقايا لفافته المحروقة ان اشتعلت
النار باحدى الثكنات الكبيرة في موسكو عام ( 1650م) فوضع الدوق الكبير عقوبات صارمة
حرم السلطان سليمان الكبير التدخين اذ اقام التشابه بين مايفعله دخان التبغ في الانسان وبين
ماتفعله مختلف المشروبات الكحولية وافتى القضاة بتحريمه ودعت مختلف المعابد الدينية
الشرعية للابتعاد عنه ليأتي بعدئذ احد السلاطين فيرى في التدخين كفراً وزندقة فينفذ أمر
الاعدام شتقاً بثلاثة من المدخنين القي القبض عليهم رجال الشرطة وهم يدخنون في احدى
الدور في اسطنبول . وقد استحدم التبغ طبياً فقد كانوا يستعملونه في رد الفتق وفي انعاش
الغرقى وذلك بواسطة ادخال دخان التبغ عن طريق الشرج . وكانت تبلل الاضمدة بماء التبغ
على رؤوس الاطفال الملأي بالطفيليات الصغيرة ، كما كان يستعمل ماء التبغ ضد الجرب وقلّ
ان تفيد هذه المداوة ، ولذا فقد عارض الاطباء كثيراً في قبول هذه المعتقدات الا ان نصائحهم
لم تحل في الواقع دون استعمال التبغ كمادة طبية خلال القرنين السادس والسابع عشر
ورغم شدة احكام الملوك والؤساء فان مختلف التدابير التي اتخذت للحيلولة دون انتشار
التبغ قد باءت بالفشل وقد أيقنت العامة في الشرق والغرب ان اللذة التي يقضي من اجلها كثير
من الناس لابد ان تكون لذة عظيمة الآثر في النفس من الصعب تجاهلها . فما ان حل النصف
الثاني للقرن السابع عشر حتى انهارت جميع الانظمة والقوانين التي وضعت في اوربا ضد
التدخين ، وأستثمرت زراعة وصناعة التبغ من قبل مختلف الحكومات وقد غدا مورداً هاماً
لخزائن المال وسلعة منتظمة لاتلاقي سوى الحماية والتشجيع
وكانـــت فــرنـــسا البلد الاوربي الوحيد الذي لم يعرف الحرب على التبغ كما كان البلد الاوربي
الاول الذي وضع ضريبة على استعماله وهو ماجعل حكامه يستحسنون انتشاره اذ قام وزير
المالية الفرنسي (كوليير) عام 1692 م بتنظيم ضريبة التبغ بحيث اصبحت من اهم الضرائب
غير المباشرة التي ساعدته على سد عجز الميزانية الهائل . وتم تنظيم الضريبة على التبغ في
العالم اجمع خلال النصف الثاني للقرن التاسع عشر ولم تعرف الدولة العثمانية هذه الضريبة
الجديدة قبل عام 1882 م . والى جانب هذا فقد رافق انتشار التبغ نشاط اجتماعي خاص ،
فتألفت جمعيات في اوربا تدعو له وصدرت مجلات عديدة عن التبغ وخاصة في باريس
عام (18881م ) ، ومن طرف أخــــر تألفت جمعيات مضادة في باريس ايضا عام 1882م
لتقاوم انتشاره كجمعية الشركة الوطتية ضد انتشار التبغ وصحيفتها ، وقد اضمحل جل هذه
المنظمات عقب الحرب العالمية الاولى
هــــــــــــذه هي قصة التبغ ...قاوم كل المعترضات وانتشر بقوة مثل انتشار الادغال الضارة
بحيث صار استعماله الان احد مظاهر الحياة العادية يرضى به الكثيرون وقد اضحى ضرورة
من ضرورات حياتهم اليومية وهم يدرون انه سم بطيء ترى هل سيأتي اليوم الذي يحــــــرم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق