ما أن تسرح ذكرياتي وتجول في خاطري الأ وهببت تسترجع صوراً عالقة
في ذهني من الماضي ، تذكرني بمواقف أحدثت ندباً في قلبي . وهمّاً عظيماً
لطالما جعل دموعي تتناثر من مقلتي كتناثر حبات العقد عندما ينفرط ، فلا
يهدأ وجدي ولا تسكن عبراتي وتنبعث من رأسي حرارة تلفح صفحات وجهي
وقد أخذني الحزن بعيداً الى حيث أماكن ألأسى ومناطق أستشعار الألم ، فوجدت
هناك وجه أبي وقد خطت عليه الأيام هموم العالم كرقيم طين سومري رسمت
عليه رموز قديمة ، وعيناه الغائرتان في قعر محجريهما كعين ماء حارت وغار
ماؤها ، ولا أنساه يوم كنت أرقبه من حيث لاينظرني وهو ممعن النظر في اخي
الكبير مسلم ( الشهيد ) ، وهو نائم كأنه يبحث عن شيء في وجهه ، ولم أدر ماسر
هذا التحديق وهذه النظرة التي خلتها أستغرقت الدهر كله ، أقتربت منه وأنا أمشي
على أطراف أصابعي كي لايشعر بي ، فلما احس بي رفع رأسه اليّ ودموعه
تنذر بحدوث شيء خطير ، أراد أن يداريها فيمسحها بكمه ، لكنها سبقته الاعلان
عن نفسها ، فعالجته متسائلاً وكنت أسرع في رصد دموعه ، أبت لم هذه الدموع ؟
ولم تطيل النظر والتحديق بأخي مسلم هل هو بخير أم أنك متوجس عليه خيفة ؟
أجابني من دون تردد أو تفكير نعم ياولدي أنا خائف على أخيك ، وأني أخاله لا
يرجع بعد أجازته هذه الاً شهيداً فقلت : مالذي دعاك لقول ذاك أرجماً بالغيب
ياأبي قال : معاذ الله ياولدي ماكنت مطلعاً على الغيب وماكان لي أن أدعي ذلك
لكنني خبرت من الايام وعركتها فوجدت أصدق حكمة فيها تقول (( ان الشيء متى
ماأستكمل من الدنيا تماماً فتوقع له زوالاً)) . ومسلم اليوم قد كبر وحلا في عيني
وعلق في قلبي وماأخاله الاً مغادراً . عندها لفني شعور غريب وكأن ظلمات الأرض
تجمعت وتكاثفت وأطبقت عليّ من كل جانب . فلما رأى حالي قال يابني هون عليّك
ولا توَجل دعنا لانسبق الاحداث ، وبحركة ذاتية منه أراد أن يُخفف عليّ وطئة الموضوع
فألتفت الي قائلاً : أتدري لم سميته مسلماً ؟ قلت تيمناً بذلك البطل مسلم بن عقيل (ع) قال
نعم ، وأني لأرجوا أن تكون خاتمته في هذه الدنيا كخاتمة ذلك البطل الذي استحق ان يطلق
عليه رجل المهمات الصعبة والمواقف البطولية ، رجل تمتع بكل الامكانات الفريدة والقدرات
العجيبة التي جعلته في مصاف الرعيل الأول من الأبطال والخط المتقدم من الرجال
اذ هو شعلة متوقدة وطاقة متجددة لاتفنى وهمة دونها الموت ومشروع شهادة وفداء لامامه
الحسين (ع) يابني اني لأرجوأن يكون أخوك مسلم ثابت الجنان على الحق والعقيدة متأسياً
بسمية مسلم بن عقيل فيسير في دربه ويحذو حذوه وتنزع روحه الى كل خير مثلما نزع
مسلم بروحه ليمازج بعمله البطولي رضى ربه برضى مولاه الحسين (ع) لقد وفق مسلم خير
توفيق وأني لأعتقد أن العناية الآلهية كان لها دخل كبيرفي ذلك ،بدليل انه كان من أوائل
شهداء القضية الحسينية وفي مقدمة من بذلوا ارواحهم رخيصة دون مايعتقدون . وهذه
في حد ذاتها مرتبة عظيمة تميّز بها عن غيرة وجعلته علماً ذا سارية عالية من أعلام
النهضة الحسينية . وّجم المكان وساده سكون المقابر ، فأحببت أن أكسر تلك الأجواء
الباردة التي لفت أبي في تلك اللحظة فبادرته قائلاً وما الدليل على ماتقول وما الكاشف
عن هذه العناية ؟ اجابني أن طريقة تعامل الامام الحسين (ع) معه هو خير كاشف عنها
بأعتبار أن عناية المعصوم تسير طولياً مع عناية الله ولا تتخلف عنها ، فقد قدمه الامام
الحسين (ع) على غيره في كثير من المواقف ، بدليل ان الامام (ع) كلفه بمهام صعبة
لايقوم لها الا أمثاله - على قدر أهل العزم تأتي العزائم - ويكفي في المقام اعداده
لأهم مهمة وهي السفارة بأعتبارها مقدمة لمشروع الهي كبير ، وهو يعلم أن حجمه يمليء
هذا المنصب الخطير لاسيما اذا كانت السفارة في العراق ،لأن أهل العراق لهم وضعهم
الخاص وطبيعتهم الوعرة ، بما عرف عنهم من صعوبة الانقياد الى أي أحد مهما كان
مالم تكن فيه مقومات القيادة الحكيمة والحنكة في سياسة التدبير ، كما عرف عنهم بأنهم
أهل دراية وعقل وتحليل للأمور فلا تمرر عليهم ألاعيب السياسة وحيلها ولا تنطلي عليهم
ماينطلي على باقي الشعوب ، بما جرت عليهم من العوارض والأحداث السياسية ، فلا
يسلموا زمامهم الا من كان أحق بالولاية والقيادة من غيره ، كما انهم مادة كل ناهض ضد
الظلم مما أعطى أنطباعاً عنهم انهم الخط المعرض لكل حكام الجور وهذا ماجر عليهم
الويل والحيف من قبل الامويين ، فاحتاجوا الى نهضة يثقل نهضة الامام الحسين (ع)والى
رجل مثل مسلم بن عقيل يرفع الحيف عنهم بقوة عزمه ويمسح عن همومهم بقلبه الرؤوف
قلت يــا أبه أني لا اتخيل كيف لمسلم أ، يتقبل هذه الموتة القاسية الشنيعة بهذه الرحابة
وبهذا الصبر الكبير ؟ قال : ان الذي له همة مسلم وصدق سريرته وقوة أيمانه وتنمره في
ذات الله وثباته وصبره في المواقف العظام التي تزل فيها الاقدام وتضعف العزيمة وتقل
فيها الحيلة وتنكث عندها أشد الرجال ، ومن يمتلك الاخلاص الشديد لامامه الحسين (ع)و
استعداده الدائم لأن يكون مشروع شهادة في سبيل الحق وفي سبيل نصرة الدين ، لايهمه
بعد ذلك ان مات على أية ميتة فلا فرق عنده قتل بشفار السيوف أو تحت سنابك الخيول
أو قتل صبراً وذاق حرّ الحديد أو ألقي من أعلى قصر الامارة أو جر من رجليه في الاسواق
المهم عنده أنه أعطى لله ماأراد الله منه فأستحق أن يفرده الله في المنزلة العظيمة وأن
يقيم له وزناً عنده في الدنيا والاخرة ، وهكذا تكون الرجال والا فلا لا ليس كل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق