الخميس، 22 أغسطس 2019

القنفذ / قصة قصيرة


سنون سبع مضت ، طوت ذكراه البغيضة  من ذاكرتهم وتحللت
مثلما تتحلل جثة هامدة تنفر منها النفوس باستثناء تلك  الحادثة
التي غيرت مجرى حياتهم . أذ لم يعد في ذهن (صبيحة)  وابنائها
الفتيان الثلاثة مما عانوا منه على يد ذلك الشرير  الذي ماكان يتردد
بايجاد وسيلة لئيمة وقذرة لايذائهم بها . كان مثل قنفذ ، كريه الشكل .
تقلب في بقاع عديدة ثم أستقر الى جوارهم ، على رقعة صغيرة في

سوق شعبي يعج بالباعة المتجولين .
وكانت (صبيحة ) وأبناؤها الفتيان  يبيعون الخضر كما كان يبيعها
هذا الشرير . كانوا يضعون سلال الخضر فوق براميل فارغة وينادون
عليها بسعر أرخص مما كان يبيع  هو ، فكان رد فعله يتسم بالتحامل
عليهم .فيلجأ الى السباب والشتيمة . غير انهم ما كانوا يردون عليه
أنما كانوا يتشاغلون بأنتقاء الجيد  من الخضر وعزل الرديء منها
اما هو ، فظل سادراً في غيه . لا أحد يردعه وعلى وجه التحديد
حينما يشاهد المتسوقين يقبلون على شراء مايحتاجونه من الخضر
التي يعرضها الفتية بشكل متناسق وجميل فتبدوطازجة وكأنها قطفت
للتو ،فيستبد الغضب به .وفي فورة غضبه ، ينهال عليهم بالضرب
والركل ثم يقلب سلال الخضر بما فيها فوق رؤوسهم ،فتتناثر على
ارضية السوق الطماطم والباذنجان والجزر وغيرها من محاصيل
الخضر من دون أن يحسب حساب غضب الفتية الذي يعرض نفسه
له . ولقدر مساوٍ لغضبه يثور الفتية ويجن جنونهم من سطوة هذا
المتسلط . وبوحي خاطف من غضبهم ، يتناولون الحجارة وبقذفونه
بها . ثم يتناول أحدهم عصا غليظة كان قد خبأها في احد البراميل
الفارغة فيضربه بها ، غير ان الباعة في السوق يتدخلون لفض
العراك ..ويهرع أحد الفتيان الى حيث تقيم امهم وقد تملكه خوف
شديد ، وبأنفاس متقطعة ، لاهثه ، أخبرها بما حصل
وتترك الام البيت الصغير ،المتداعي الذي أستأجرت حجرة فيه
وسكنتها مع أبنائها بعدما مات أبوهم في حادث دهس ..وتخرج الى
الطريق مصدومة تولول وتندب حظها العاثر الذي وضعها في
مواجهة مع هذا الظالم الذي لم يكف يوما عن خلق المشاكلات لها
ولابنائها .. وتسرع في خطوها شطر السوق لاهثة ،مبتسمة يسبقها
ابنها بخطوات .وبين فينة وفينة كانت تلقي نظرة غبراء على طلائع
السوق الذي لاح عن بعد ثم تسأل أبنها بمرارة شديدة : عما أذا كانت
الخضر ماتزال مطروحة على الارض ؟
فيجيب الابن بالايجاب .فتلطم خديها الغائرين بقوة وتصرخ ... و
الطماطم ... الطماطم سوف تتلف ... سوف يصيبها التلف .. ويأخذ

الابن بالركض  الى داخل السوق ومن ورائه تصرخ وتستغيث حينما
رأت الطماطم على الارض والشقي يدوس عليها بنعليه  وفورة غضبه
قد بلغت حد الهياج  الشديد... لكن صراخها لم يجد ، ولم يوقفه عن
فعلته الحمقاء تلك . ومن وسط الوجوه العابسة ، المتفرجه ، وقفت
وفتحت صدرها للسماء . وبعينين مبلولتين بالدمع وقلب منسحق مجروح
شهقت ونادت بالدعاء بأعلى صوتها : عليك بغضب الله .عليك بعذاب
القبر ... كان صوتها يرن بالألم وقد ملأ صداه الافاق
وكأن السماء أستجابت لدعائها في تلك اللحظة
دعاء المظلوم على الظالم يستجيب له بسرعة .قال احد الباعة بيقين ثابت
رد عليه اخر : سبحان الله ،انظر اليه ،انه لايتمالك نفسه ،أنه يترنح  يكاد
يسقط على الارض ..ربما أصابته نوبة قلبية نتيجة انفعاله الشديد..ويسقط
الشرير على الارضمتكوراً مثل قنفذ ، يتمرغ فوق عصير الطماطم الذي
سال على الارض ولونها بلون احمر قان كلون الدم
وساد الارتباك السوق . وانطلقت أصوات تطلب سيارة اسعاف وتعالت
اصوات أخرى تعلق على ماحدث ، والام وأبناؤها لاذو بالصمت وراحو
ينادمون الخوف في احد منعطفات السوق
كانت (صبيحة) اول من حل بذلك السوق الذي كانت ارضه كثيرة الردم
وكان الشوك يحيط بسوره القديم . وكان يدمي اقدام اولادها العارية ،
وكان عليهم اجتياز تلك المنطقة للسوق قبل الدخول اليه ، فعمدوا الى
اقتلاع الشوك انذاك بأيديهم الصغيرة ونظفوها منه . وراحوا يبيعون
الخضر على ارض نظيفة ياتي اليها المشترون بسهولة ويسر ، يتجولون
في انحائها ثم يستقرون عند خضر الفتية حيث كانوا ينادون عليها بوجوه
نضره ، باسمه حتى جاء الشقي ، فحول حياتهم الى سلسلة من المشكلات
كان يفتعلها معهم بغية الاستئثار بمكانهم ، كنهم  برغم الشجارات التي
 كانت تحصل ظلوا متمسكين بموضعهم في السوق . عندما وصلت سيارة
الاسعاف ، توقف ضجيج الاصوات وظلت العيون تحدق في الباب الخلفي
لسيارة الاسعاف حيث فتح على عجل ونزل ثلاثة رجال وبأيديهم نقالة ،
حملوه فيها الى داخل السيارة ثم أنطلقت بسرعة ونفيرها المتقطع يدوي
بنذير الخطر ، بعد تلك الحادثة ، أصبح موقف لاصبيحة وابنائها محرجاً
في السوق ولم يتبق أمامهم سوى الرحيل بعيداً عنه وخلفية الحادث المؤلم
الذي هلك جار السوء من جرائه تلاحقهم فلجأوا الى ساحة قريبة من أحد
المناطق التجارية في مدينة بغداد . وكانت مخصصة لبيع غيار مستعمل
من مختلف الانواع . ووسط العديد من الرجال والفتيان ، أفترش أبناء
صبيحة - (بسطة) ووضعوا عليها قطع غيار مواسير مستعملة  وراحوا
ينادون عليها بروح متعاونة وشفافة مع الباعة الاخرين الذين كانوا بدورهم
ينادون على انواع اخرى من قطع الغيار المستعمل . وشعرت (صبيحة ) براحة
البال وهي ترى ابناءها وقد راحوا يتغنون امامها بأنهم سوف يصبح لهم
شأن في هذه الحرفة مادام ما  عاد هناك من  يضايقهم ويتجهم عليهم
وكأن الله سبحانه وتعالى  أراد لهم بهذا العمل البسيط ان يفتح عليهم الرزق
وشيئاً فشيئاً اخذت ملحمة العوز التي رافقتهم من خلال تلك الرؤية الكالحه
التي رافقت واقعهم المعيشي ان تتحسن بعدما كانت بفعل غيظ ذاك الجار
الاناني الذي كان يتعامل معهم بغريزة  الوحوش
اما اليوم ، فهم يسمعون ويستمعون الى اصوات تصدر عن قلوب نقية
رحيمة ،صافية  فيها روح النصيحة الخالصة تشجعهم على فتح محل خاص
 بهم لبيع قطع غيار مواسير جديدة وعلى الاخص ، بعدما تعلموا حرفة اصلاح
المواسير وباشروها واصبحوا ماهرين فيها ، ففتحوا محلا خاصا بهم ، وتبدل
حالهم وانتهت الايام الكئيبة التي خيمت على حياتهم  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق