عائد المنشد صوت يمتليء بالمستقبل
من الواضح ان ملكات الانسان تتميز بأنواع ثلاثة ، هي الفعل الذي يميز
عن نفسه ، بالكلمة ، والقلب ، الذي يجد تعبيره في النغم ، والجسد الذي يعبر
بالحركة فالتعبير الانساني الكامل ،هو تعبير بالكلمة والنغم والحركة معا . وهو
التعبير الذي يأخذ شكله الفني في ( الشعر والنغم والرقص ) . فالرقص ينزع
الى الائتلاف مع النغم وصولاً لتجسيد كيانه والتعرف على ذاته ، والنغم هو
الاخر يستمد وجوده من ايقاع الرقص . غير أن أبرز العناصر الحيوية في
النغم هو الصوت البشري لذلك تجد الكلمة ( الملفوظة ) بمثابة العنصر المكثف
للصوت البشري ، كما أنها مجموعة ايقاع الاوتار الصوتيه ، اي انها الصورة
المحكمة للنغم ، من خلال ماتقدم ندرك أن الغناء قيمة فنية عالية من قيم العمل
الانساني ، الذي ينطلق طبقا لما تمليه عليه الحاجة ، لذلك فأن المغني عندنا
ينطوي غناؤه لمحاور ثلاثة . (الاول ) هو أنه أذا أراد أن يكون مؤثراً ،عليه
ان يكون غناؤه متطابقا مع واقعنا - اليوم- ( الثاني ) أن يكون وليد الظروف
التي تحيط بالزمان والمكان الذي يعيش فيه المغني،( الثالث) أن يتضمن أتجاهاً
لاجدال في ان للفنان المغني والفنان الملحن احلامه عن الفن والحياة ،وان له الحق
في اختيار صنف الطريق الذي ينسجم مع مؤهلاته الفنية ، من دون ان ينكر عليه
احد ذلك ، غير أننا لانملك الا ان ننفض من حوله حينما يحاول ان يجرد تعبيره
الفني من لهجة المجموع البشري الذي ينطلق منه ، في أغنية اليوم ، ماذا نجد ؟
هنالك مغن يزعق ، يجهد حنجرته الواهنة ليقدم شيئا يرضي الاسماع ، أنه يمارس
تعذيب حنجرته تعذيبا شديدا محاولا ان يبلغ درجات السلم الموسيقي الواحد ، دون
جدوى ! والاخر صوت متعثراً في نغمة من انغام الاغنية يريد بلوغها ، ولكن دون
جدوى ، ومغن ثالث تتهشم اوتاره الصوتية وتخفت من الاعياء ، لكي يقنع نفسه
بانه صار على مقربة من حلم الغناء ، وأيضاً دون جدوى ، وعليه فان محصلة
مايجري في ساحة الغناء العراقي ، هو بلاء ثقيل لايمكن احتماله ، ربما لا امل في
معجزة تهبط علينا لتطؤح اصوات الغناء الحالية وتهدي الينا صوتا فيه لذعات من
الطرب الذي يهدىء النفوس وينعش القلوب ، وفي تلك الفوضى التي تعيشها حركة
الغناء العراقي ، يجيء صوت عراقي جديد في نبرته ، في غنائه تأمل وفي نفسه تحلية
وفي حركات حنجرته تنثال زخارفه الغنائية ، أنه الفنان المطرب والملحن ( عائد المتشد
يرتجل الغناء ، كما ترتجل الآلة الموسيقية الالحان ، واذا عقدنا مقارنة وان كانت ظالمة
بين ارتجالات آلة القانون وحنجرة المغني ، فأننا سنكتشف الفرق ظاهراً و باهراً أيضا
ذلك ان اول اختلاف بين الارتجالين ، هو المساحة الصوتية التي تتحرك بهما حنجرة
آلة القانون وحنجرة المغني ، فأوتار الآلة أقوى من الحنجرة البشرية ، وأذا أرادت
آلة القانون أن تتحركفي مساحة صوتية ، فأن تحركها يصل الى حدود أربعة اوكتافات
صوتية أي أربعة دواوين صوتية في التعبير العربي ، والديوان الصوتي مساحته
ثمانية درجات تبدأ من درجة موسيقية ولنفرض أنها درجة ( دو) وتنتهي ، أي تقفل
بدرجة ( الدو) للأوكتاف أو الديوان الثاني ، بينما الحنجرة البشرية أقصى ماتصل اليه
هو ديوانان ونصف ، ألمهم ان عائد المنشد يبدا غناؤه مرتجلا . مداعباَ مقام البيات
او مقام السيكاه او مقام الراست ، بحسب المقام الذي صيغت منه الحان الاغنية
التي يريد انتشارها والمغني العربي بشكل عام كما يقول الموسيقار خالد الذكر
محمد عبد الوهاب . ( يخلق صوته ) وهذا يناقض الصورة التي عليها المغني الاوربي
فأن المعاهد الموسيقية ، هي التي تخلق صوته ، وهذا يعطي الفرق الجوهري بين
الغناء العربي القائم على الاحساسات وبين الغناء الغربي القائم على التقنيات ! المهم
أن عائد المنشد يطلق عقيرة صوته منطلقا في بضع كلمات معبرا فيها عن مجموعة
امتلاكاته الفنية في الموهبة والابتكار والصنعة ، وعائد المنشد فنان عصامي خلق
صوته متدربا على الاغنيات المطولة والكبيرة للموسيقار الكبير فريد الاطرش ، كذلك
فأنه تدرب على بعض أغاني كوكب الشرق أم كلثوم ، هو يفتح حنجرته باصابعه
ويصعد الى طبقات صوته العليا ويهبط الى طبقات صوته السفلى ، يتعامل مع الميكرفون
تعاملا متميزاً ، الى جانب ذلك ، فأنه تعلم العزف على آلة العود وذلك من خلال انتمائه
لبعض المعاهد الاهلية الموسيقية ، ثم تدربه مدة سنتين من خلال انتظامه تحت رعاية
الفنان فاروق هلال ، وهكذا عبر هذه المراحل تمكن عائد المنشد ان يكون جزءاً من
كيان الغناء العراقي ويذهب الى عدد من الاقطار العربية معتمدا على موهبته وماتعلمه من اصول
وعلوم الغناء والالحان التي يلحنها مبتدءاً بأغنية ( رحلة حياتي ) وهي اول اغنية يلحنها
من شعر الشاعر ابو وليد ثم تتتابع الاغاني ليحصد جائزة حصل عليها عائد المنشد هي
فوزه بجائزة مهرجان القاهرة وحصوله على الدرجة الثالثة من بين اصوات الاقطار
العربية ، حيث وصفه بعض المتعمقين بفنون الغناء ، بأن صوته ينفرد بالجزالة والمقدرة
والشجن ، وتتمتع الحاسة اللحنية عند عائد المنشد بقدرتها على الصياغة المركزة للالحان
خاصة تلك الالحان المعبرة عن دواخله كفنان وعن حياته كأنسان وما فيها من عذاب وقلق،
وحنين ونواح وشجن ، فيزيد من خلال هذه الالحان الاسماع وجداً على وجد ، وهو يغني
مبتعداً عن ( القعقة ) كما هي عند اصوات هذه الايام ، وينشد بصوت لا اثر فيه لمرض
الصوت الاخن ، يتسع حيناً وينكمش حيناً ، والالحان تتعجن بين فكي المغني ، ليس هو
بالصوت اللقمي ، الذي يغني وكأن صوته يتردد في حلقه ، ولسانه يقلقل في فمه
ان صوت عائد المنشد ،فيه مقدرة وفيه غنة وفيه أداء سليم ، ويمتلك أسلوباً تلحينياً يجنح
الى الروح الشرقية والعربية ، مع تطويع ذلك كله لروح العصر الذي يعيش فيه ، أن أمام
هذا الفنان متسعاً من الوقت لكي يصقل موهبته ويتحرى ملامح الارتقاء بهذه الموهبة الى
حيث أمالها في العلم الموسيقي والرصانة البنائية لها
الناقد الموسيقي الراحل عادل الهاشمي
2000
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق