الأحد، 30 يونيو 2019

للعبرة .. صفحتان من التاريخ


صفحتان من التاريخ


 نتصفح التاريخ للعبر واحيانا لمجرد التسلية وفي الحالتين 
يريك الماضي من خزائنه مايزيدك سكونا ورهبة . وكما
 يقال دائماً .. (( الحياة كتاب )) بعضها رتيب ، 
وبعضها الاخر يزخر بالدهشة والغرابة ، وكل
 منا يحمل مثل هذا  
الكتاب في ذاكرته فما ان ينطفيء وتنطفيء معه
 تلك الذاكرة يذوب كتابه وكتاب حياته في
 الزمن .. وآه من قاع الزمن الذي لايرحم. فكم من  
شعوب وحضارات وامم جرها الى عالمه
 السفلي وتركها هناك تحت ركام النسيان وكاني 
 حين اتصفح كتاب من الماضي احدق في هذا
 القاع البعيد الغور فتصعد لي الصفحات مثل 
فقاعات صغيرة ناعمة سرعان ماتومض لحظات 
 ثم تمضي مسرعة لتذوب في السديم .. وقبل ايام
 تصفحت كتابا غربيا انه مجرد فصل من حياة 
انسان كان يلعب ويأكل ويخاف ويحلم مثل باقي
 الناس ، وراحت صفحات كتابه تقفز الى الخلف
 صفحة اثر اخرى حتى انطوت صفحته الاخيرة 
 ومضى الى القاع ..... ولكن هنالك صفحتين
 صفحتين فقط من ذلك الكتاب كانتا شائكتين
 وعسيرتين على الفـــهم 

 الصفحة الاولى 

 كان مساء 16 مايس 1771 ضربا من الاساطير
 في باريس وكانت تلبس كامل زينتها تلك 
الليلة ... الاضواء والالعاب النارية والعربات
 المزينة تلك المدينة الساحرة تتألق على
 ضفاف ((السين )) بالشموع والفرق الموسيقية 
 ومئات الالاف من المستقبلين 
 على الارصفة وفوق السطوح والاشجار
 وعلى ظهور الجياد باريس مدينة الاحلام تستعد
 لاستقبال مليكتها وفاتنة الدنيا (ماري أنطوانيت ) لقد
 ارسلتها أمها (( ماريا تيريزا )) أمبراطورة
 النمسا لتزف هذه الليلة الى ولي عهد فرنسا 
 ومليكها المقبل لويس السادس عشر وحين 
 دخلت تلك العروسة الفاتنة ذات الخمسة عشر
 ربيعاً باريس واطلت عربتها الملكية المزينة 
 بالرياش يتقدمها ويحيط بها ثلاثمائة وستون فارساً ،
 ومدت يدها الذهبية المترفة النحيلة لتحيي 
 الجماهير شهقت باريس كلها لمرأى هذه الحورية 
الطالعة من بحار الاحلام أسبلت ماري انطوانيت
 جفنيها وانتشت سكرى بهذا الاستقبال الرائع
 ولم تنم تلك الليلة 

 الصفحة الاخيرة 

 زنزانة رطبة وسرير خشبي عتيق ومنضدة
 عليها شمعتان ترسلان ضوءاً شاحباً لايكاد يصل 
الى الجدران ، وأمرأة متشحة بالسواد تنحني على
 وريقات صفراء امامها وتكتب انها الساعة الرابعة 
 بعد منتصف الليل ، وبعد ساعتين او ثلاث سوف
 تغادر زنزانتها لتمضي الى ساحة ( كونكورد) في
 وسط باريس ، حيث يتجمع الالاف من الرجال
 والنساء ليشهدوا ذلك الاحتفال الغريب وفي
 الموعد المحدد سمعت طرقات خفيفة على 
الباب ... لقد جاءوا وفي تلك اللحظة كان
 يصلها من بعيد صراخ الناس وهتافاتهم
 العالية تدوي في الافاق ، وراحت تتذكر
 تلك الامسية الغاربة ... كان ذلك قبل 
اثنين وعشرين عاماً حين دخلت باريس
 في عربتها الملكية الفارهة اول مرة 
 وحين انفتح باب الزنزانة دخل 
الجلاد ( سمسون ) فأمسك بيديها النحيلتين
 اليانعتين واحكم وثاقهما بحبل غليظ 
 خلف ظهرها وتركته يقص شعرها المسترسل
 المشع دونما مقاومة ، فلا يليق بملكة 
ارستقراطية نبيلة ان تثير هرجاً وضوضاء 
 من أجل خصلة من الشعر الملكي ستقع بعد
 قليل تحت اقدام الجنود والسجانين .. وحين
 تم كل ذلك ركبت تلك العربة الغبراء ذات
 السحنة الدميمة والتي يجرها حصان هرم 
 متشقق الساقين وراح يجري بها بين مواطني
 باريس وزئيرهم الذي يصم الاذان ... وحين
 وصلت ساحة ( كونكورد ) ووقفت العربة امام 
 المنصة التي تجثم عليها المقصلة بنصلها اللامع 
 المخيف هبطت بهدوء وثبات وراحت تتحسس
 ثيابها لتطمئن على اناقتها وفتنتها ، ثم
 أتجهت الى المنصة وصعدت درجاتها بذات
 الهدوء والكبرياء يتبعها الجلاد سمسون - ممسكا
 بطرف الحبل الذي يكبل ساعديها ، فكأنها 
 مازالت ملكة ، مهيبة ، مرفوعة الرأس ، 
ولقد وصفها كل من راها في ذلك الموقف
 قائلا : أنها لم تشبه أمها (( ماريا تريزا )) امبراطورة 
النمسا القوية الا في تلك اللحظة ... لحظة صعودها
 الى المقصلة . ولم تستطع ان تنم تلك الليلة لانها 
 رحلت بعيداً وهبطت الى القاع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق