امسك بي الطبيب من عيني ، اقتادني الى بيت أسراره ، كان مزوداً بكل ما يحتاجه
الحكيم ، لاصلاح خلل ما أصاب البصر عند شاعر البصيرة
أردت أن أقول له :
أنا ، كما ترى أيها الحكيم شيخ في السبعين . وعيناي لاتستحقان كل هذا العناء .. !
فعن قريب يأكلهما الدود
قال وهو يعبر بي الى صومعته : واضح من عينيك ، أنك رأيت كثيرا ... وها أنت الان
تريدني أن أساعدك على ان ترى عماك بعينيك ... أوجــعني قوله ، وفكرت ( ليس العمى
لعبة ..أنه يحرم صاحبه من التميز بين الاتجاه من اليمين أو اليسار .. وسلبه حقه في أن
يسير كما يسير المبصرون الى الامام من دون تعثر أو ارتباك
الخلاصة : أن العمى يوقع صاحبه في الشكوك ، ويعرضه للشفقة أحيانا والازدراء
قلت بصوت عال :
قد يكون العمى عدا هذا كله زينة ، وتمثلت وجه أبي العلاء ، وبشار بن برد ، وطه حسين
وكل العميان الذين أفادوا من عماهم لأنهم لم يقعوا في المفاجأة ولم يستأنسوا بأرتكاب
الخطأ والخطيئة ... وسمعت الحكيم يقول
هذا كله بسبب الكبرياء والفجاجة ، لقد كنت دائما تحاول ان تجعل عينيك تنوبان
عن لسانك وشفتيك !!
ماذا كان بوسعي ان اقول له ؟ .. كان قد أجلسني على اريكة تشبه سنام الجمل وكنت
أجد نفسي غريباً ومضحكاً ، أحاول أن أخفي خوفي ، مما انا مقبل عليه ..حين
أغدو فجأة مهددا بفضولي وذاكرة عينيّ المدربتين على الحب .. وتذكرت فجأة
نخل العراق والتمر والقصائد القديمة ... وقال الحكيم بنبرة مهينة : عليك الآن
ان تفهم حالتك جيداً ، أنت بسبب رثاثة جسدك ، ممنوع من الاستفادة
من ( البنج العام ) ، ولهذا ستخدرك (بأختصار) وسيكون عليك آنذاك ان تختبر
قدرتك على أن لاتصيح (آخ ) .... ضحكت وحاولت فعلا ان أصيح ، فخذلتني
حنجرتي وتشاغلت عن أحساسي بالذلة في محاولة التمييز بيت خدر الجسد وخدر الروح
كانت عيني اليسرى قد صعدت في رغوة الخدر الى قمى رأسي ... وبدا لي أني الآن في
الصف الرابع من دار المعلمين العالية ، وبين يدي ديوان ( الحماسة ) لابي تمام
وسمعت الفتى الذي كنته قبل عشرات الاعــوام ينشد :
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
لقد كان الصف يصغي اليّ وكنت موشكاً على الاستطراد ، لولا أن قاطعني استاذ النقد
الاصلع وسألني عن رأيي في العين اليسرى حين تبكي وحدها ، لم يكن ذلك غريباً أو باعثاً
على دعابة ، قالت الزميلة الجالسة الى يساري
بل على العكس انها صورة تثير الخيال .. أن جسدي يقشعر
وسألها الاستاذ : حتى لو كان التفسير هو أن الشاعر أعور ...؟؟
وضحك ، ثم ضحك الطبيب من بعده ، وضحك مساعده ، وأمتلأت عيني اليمنى
بالدموع ... وفكرت في أنني قد أحرم حين اصبح اعمى من جمال بلدي ، وخيل لي
ان صبياً ينشد في تحّية العلم (هل أراك ؟ هل أراك ..سالماً منعماً .. وغانماً مكرماً ).. و
أحسست بالطبيب يحتز جلد عيني ففاحت اثر ذلك رائحة زهرة على وشك الذبول
فرحت اردد مشجعا نفسي ... ابيات للشاعر محمد مهدي البصير
سواد العين ..ياوطني فداك وقلبي لايود سوى علاك
رضعت مع الحليب هواك صرفاً فعززني وشرفني هواك
وسمعت اصوات هتاف وتصفيق
وامتلأت عيناي بالنور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق